مستخدم:Hasanisawi/نقد فوكو للسلطة في النظرية الليبرالية

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
السلطة بالنسبة لفوكو هي المسألة المركزية: تفكيره بها مثّل نقطة تحول، او انكسار باسم نيتشه. لأن فوكو استخدم طريقة نيتشه الجينيالوحية وجعلها نقدية الى اقصى حد. وبما ان فوكو استاذ الشك - استاذ الشك" (“master of suspicion”) هي العبارة التي اطلقها ريكور على فرويد وماركس ونيتشه. لانهم انتقدوا المعرفة الزائفة، والوهم بالوعي الذاتي، أما الفلسفة الأوروبية الكلاسيكية من كانط إلى ديكارت التي اكدت معرفتها- فانه يفضح ويفكك ويدحض الفكرة التقليدية للسلطة. انه يتصور الفلسفة ليس كخطاب عن العالم, بل كعمل حفري للتحقق من خطابات العالم. فوكو يفكك المفهوم الحديث عن سلطة المؤسسات والقانون التي بدأت منذ هوبز, ويظهر طابعها الأيديولوجي وينتقده. ولكن فوكو لا ينتقد الليبرالية باعتبارها ايدولوجيا تبريرية فقط, بل لأنها الاساس في آلية الحكم. وهي لا تهاجم السلطة الا بما يتعلق بالاقتصاد. [1]
ينبغي قطع رأس الملك, بهذا التعبير تخلى فوكو عن المفهوم القانوني للسلطة ورسا على فكرة جديدة تنبثق عن "إرادة المعرفة".
فوكو يعكس -من وجهة نظر جينالوجية- المنظور الذي من خلاله نظر إلى السلطة. فبدلا من "منظور عين الطائر" - الذي استخدمه الفلاسفة الذين ادعوا رؤية كلية للسيادة من الاعلى- استخدم فوكو "منظور عين الضفدع"، الذي من موقع لامركزي وبزاوية، تتبع واقع الحياة في أصغر ما فيها، من ظاهريات عشوائية وهامشية. وبهذا التحليل من الأسفل، أراد تسليط الضوء على ما هو مخفي تحت سطح ظواهر الاشياء، ولم يريد فوكو ان يفحص السلطة السيادية المنبثقة من الأعلى, بل السلطات الصغرى, التي انتشرت وتوسعت على مستوى الحياة اليومية، والأثآر الثقافية والمعرفية التي ولدتها السلطة في المجتمع. [2]

محتويات

     1 النظرية السياسية الليبرالية
    2 منهج فوكو في دراسة السلطة
        2.1 موجهات فوكو لدراسة السلطة
    3 نقد النظرية الليبرالية في السلطة
    4 السلطة بين العقد الاجتماعي والحرب
    5 تكنولوجيا إنتاج الفرد
    6 السلطة الانضباطية
    7 من الانضباط الى الامن
        7.1 ما هو الفرق بين السلطة الانضباطية والامن ؟
    8 فوكو والليبراليةالجديدة
    9 جمل مفتاحية
    10 مصادر وحواشي

النظرية السياسية الليبرالية

وفقا للتعريف الموسوعي الليبرالية هي عبارة عن فلسفة سياسية أو نظرة عالمية تقوم على قيم الحرية والمساواة. وهي تعطي حقوق للفرد وبالتالي تحدد من نفوذ وصلاحيات السلطة. ولا يحق لأي جهة سواء حكومية او دينية التدخل في الحياة الشخصية او السياسية للفرد. وهذه الحقوق تشمل المجالات السياسية والمدنية. أي لكل فرد الحق في الاعتقاد والممارسة المدنية او السياسية, طالما لا يهدد المجتمع.
ولذلك فالنظرية السياسية الليبرالية تستند على الفرد باعتباره الاساس في تكوين اي نظام سياسي. اي انها مبنية على تعاقد, او عقد اجتماعي بين مجموعة من الافراد من جهة وسلطة معينة من جهة اخرى, بموجب هذا العقد الافراد يتخلون عن بعض حرياتهم, وفي المقابل السلطة تنظم وتدبر امور المجتمع وتضمن حقوق الافراد. [3].
بالنظر الى الخطوط العريضة لهذه النظرية نلاحظ انها تفترض وجود فرد سابق التكوين على اي نظام سياسي. وهذا غير صحيح, لأنه وفقا لنظرية فوكو في السلطة, السلطة هي التي تعمل على تكوين الفرد من خلال مؤسساتها الانضباطية: كالسجن والمدرسة والمستشفى ...الخ . وبالتالي لا يمكن اعتبار الفرد اساسا لأي عقد اجتماعي او نظرية سياسية.
فوكو انتقد الليبرالية ومُسَلَّماتهاالأساسية حول الفرد, من خلال وضع العناصر المكونة لها (مثل نظرية الحق [4]ونظرية العقد ومفهوم الفرد) مقابل حقيقة التي كان يعيش المجتمع الغربي في القرنين ال 18 و 19, ليفند ويعري تلك المسلمات عن طريق اكتشاف آليات ممارسة للسلطة الانضباطية.
أي اذا كانت اللبرالية تفترض وجود فرد مكتمل التكوين قبل وجود السلطة فهذا غير صحيح, لأن الفرد من انتاج السلطة. لا بل ان عملية انتاج الفرد هي من اهم وظائف السلطة في الحداثة الاوروبية. وسمى فوكو عملية تكوين الفرد بالفردانية (او الفردنة-individuation). [5] أي ان علاقات الإخضاع الفعلية هي التي تصنع الذوات. [6]

منهج فوكو في دراسة السلطة

فوكو لم يبحث عن السلطة في رؤوس الدولة سواء كانت نظام ملكي او جمهوري, بل بحث عنها في اسفل المجتمع من خلال ممارساتها في الشارع والسجن والمستشفى وليس في مبانيها من قصور ومحاكم. بحث عنها في الممارسات اليومية الذي لا يشملها العقد الاجتماعي, مثلا في المستشفى باعتبارها تنظيما سلطويا والمرضى باعتبارهم موضوعات تمارس عليهم تقنيات علاجية وطبية. وفي المدرسة بين الاساتذة والتلاميذ , وفي السجن بين الادارة والسجناء , وفي الجيش بين الضباط والجنود. ويسمي فوكو هذه الفئات من البشر بالذوات اللاتعاقدية[7], مثل المنحرف والتلميذ والسجين والمريض والجندي. [8] ونظرا لهامشيتهم وبعدهم عن السلطة بالمعنى الليبرالي فليس لهم اهمية في الكشف عن حقيقة السلطة. أما فوكو فهو يبحث عن السلطة في اؤلئك الافراد. أي بدلا من ان تكون السلطة التعاقدية وابعادها الحقوقية اساسا في تحليلاته, فإنه يضع العلاقات اللاتعاقدية مع المهمشين في مركز هذه التحليلات. لأن المؤسسات التي تتعامل مع هذه الذوات, هي مواقع التسلط والتحكم والقمع, وليست المواقع التقليدية من برلمان ووزارات واحزاب ورأي عام واعلام.
وبنفس الطريقة هذه العلاقة اللاتعاقدية وجدها ماركس في المصنع كخلية اولى في تشكيلة السلطة. فكما بدأ ماركس من المصنع فكذلك بدأ فوكو من المؤسسات الانضباطية والعقابية.

موجهات فوكو لدراسة السلطة

من الممكن تلخيص الموجهات التي استخدمها فوكو لدراسة السلطة, كما يلي:
  • دراسة الذوات ليس في اسباب خضوعها للسلطة, بل في أنها نتاجا للسطة.
  • السلطة استراتيجية كلية ولكنها تفعل فعلها من خلال تقنيات محلية للهيمنة[9]
  • ولذلك بما ان الهمينة لا تظهر الا على مستوى التقنيات والعلاقات, فهذا ما يجب البحث عنه وليس في مصدر السيادة, كما كانت عادة الطريقة الليبرالية في التركيز على السيادة منذ هوبز. [10]
  • يتفق فوكو مع فيبر [11] بتعريف الدولة بأنها مؤسسة تحتكر ممارسة العنف الشرعي. ويتفق ايضا مع تعريف ماركس بأن الدولة أداة لممارسة العنف ضد طبقات اجتماعية معينة لصالح طبقات اخرى.
مثلا نظرية هوبز كانت تنشأ من رغبة اطراف العقد الاجتماعي في القضاء على حالة حرب الكل ضد الكل, ولكنها تحنكر وحدها حق ممارسة الجرب ضد الكل المتحارب. وهذا ما سكتت علبه نظرية العقد الاجتماعي حول نشأة الدولة. [12]
ويقول فوكو ان الدولة لكي تطهر المجتمع من العنف, قذفت به خارج حدود المجتمع, ونقلته الى الساحة الدولية.
فوكو يلفت الانتباه الى ان الخطاب الليبرالي -الذي يعتمد على العقد الاجتماعي- لم تكن له السيادة التامة خلال عصر الحداثة الاوروبية, لأنه كان يسود خطاب اخر يؤكد على ان السلطة هي استمرار للحرب والغزو.

نقد النظرية الليبرالية في السلطة

يشبه فوكو النظرية الليبرالية في السلطة بانها ذات نزعة اقتصادية, لان ملكية السلطة كملكية السلعة التي يتبادلها الافراد ويمكن ان يحتكروها , وتتراكم في أيدي اشخاص معينين كما هو حال السلعة.
تأسيس السلطة بالاعتماد على التعاقد الاجتماعي يتم وفقا لنظام تبادلي يحاكي التبادل الاقتصادي. لأن العقد الاجتماعي يتضمن نوع من الاتفاق بين افراد , يتخلون بموجبه عن بعض حقوقهم الطبيعة لصالح سلطة معينة, لكي تنظم حياتهم الاجتماعية. وليست صدفة ان الليبرالية هي التعبير السياسي عن الرأسمالية. التي شعارها يتلخص في المقولة الفرنسية دعه يعمل دعه يمر.
اللبيرالية تنظر الى السلطة على انها مُلكية, وتحاول الحفاظ عليها من خلال توجيه الناخبين. فنظرتها ان كل فرد يعني صوت واحد يدل على نظرتها الكمية السلعية. ولكن فوكو يقول ان السلطة ليست مُلكية بل استراتيجية توهم الفرد بأنه حر مخير, وفي نفس الوقت تُخضعه للتحرك فقط في اطارها العام. وهذه هي اعلى درجات اخضاع الذوات. [13]
السلطة ليس بالضرورة ان تكون بين مؤسسة وجماهير غفيرة, بل فقط بين فردين. التي يسميها فوكو "السلطةالصغرى" ويعتبرها وحدة التحليل الاولى للسلطة. وهي النوع من السلطة المنتشر في مؤسسات مثل السجن والمستشفى والمدرسة ...الخ .
فوكو لا يعالج السلطة وكأنها قمة لهرمية اجتماعية, بل ان العلاقات السلطوية راسخة بين كافة اعضاء الجسد الاجتماعي. فعلاقة المدرس مع التلميذ سلطة, والطبيب مع المريض , والضابط مع الجندي.[14]
ونظرية فوكو في السلطة تنص على انه ليس هناك سلطة بدون صراع بين الاطراف.
وبما ان السلطة استراتيجية, فهي تضع الاطار العام الذي يتحرك فيه الافراد. ولا تلجأ للعنف. لأن استخدام العنف دليل على فشل السلطة او مثال على الهيمنة الكاملة. [15]

السلطة بين العقد الاجتماعي والحرب

وفقا لنظرية العقد الاجتماعي عند هوبز, التي استبعدت الحرب كأساس وأصل لهذه النظرية, فإن السلطة للمنتصر , والمهزوم بدلا من ان يناضل حتى الموت, فإنه يقبل ان يصبح المنتصر ممثلا له. ومن جهة اخرى يقبل المنتصر هذه المهمة لأن المهزوم يعترف له بالسيادة. وبالتالي فالعقد عند هوبز هو دبلوماسية الضعيف اتجاه القوي. [16]

تكنولوجيا إنتاج الفرد

فوكو يدرس بطريقة جديدة ظهور الفرد الحديث, ليس انطلاقا من النزعة الانسانية , بل من نظم التربية والعلاج والرقابة والعقاب ابتدأ من القرن ال 18. الذي حتى ذلك الحين لم يكن موجودا. وما كان ظهوره الا نتيجة لآليات السلطة الجديدة. أي نتيجة لعملية فردنة هدفها اخضاع الانسان الى عمليات مراقبة صارمة وادراجه في نظم ضبط محكمة.
يبدأ فوكو بتتبع تكنولوجيا انتاج الفرد من صاحب السيادة او الملك باعتباره الفرد الاول. فهو يقول انا الشعب والشعب انا. ومنذ صناعة الفرد الاول اصبحت الوظيفة الرئيسية للسلطة هي صناعة الافراد. فالسلطة والفرد نشأ معا, لأنها تنتج الافراد وهم يعطوها بالشرعية.
بدأت السلطة في خلق موضوعها وهو الفرد وتمارس على جسده فعلها: من ضبط وتنظيم من خلال مؤسسات الرقابة والعقاب مثل المدرسة والسجن والمستشفى والجيش. فالسلطة من خلال انتاج الافراد وتنظيم اجسادهم في اطار من الروتين اليومي من حركات وافعال متوقعة, تعمل على تسهيل هدفها في السيطرة والتحكم.
وعندما تأتي الليبرالية وتبني نظرياتها حول حقوق وحرية الفرد, فهي لا تتعامل مع موضوع اولي او قبلي , بل مع منتج السلطة. وبالتالي فهي جزء من عملية انتاج الفرد الحديث او الجانب الايدولوجي لتكنولوجيا السلطة الجديدة, وليست جزءا من خطاب النزعة الانسانية او عصر التنوير.
تكنولوجيا إنتاج الفرد, تحدد الفرد طبيا وجنسيا وقانونيا. وتتحكم بجسده ليصبح بعد ذلك آلة للانتاج.
ولذلك يسمي فوكو نظم العقاب في القرنين 18 و 19 بالاقتصاد السياسي للجسد, لانها تسعى الى قيمة قوى الاجساد المنضبطة والخاضعة. من حيث انها تتعامل معها من منطق اقتصادي يهدف الى الاستثمار والانتاج. ولا يمكن ان تصبح كذلك الا باستخدام آليات الضبط والمراقبة. التي أتت بها سلطة الحداثة الاوروبية. فالفرد هو اولا قطعة من الآلة الانتاجية واخيرا قوة للاستهلاك.
فوكو تجاوز ماركس وفيبر بما يتعلق بنقد السلطة, بينما ماركس تحدث عن استغلال العمال في المصانع, فوكو ذهب الى ان الاجساد -قبل ان تكون قوى عاملة - كانت قد ادرجت ضمن نظام تنظيمي ورقابي وعقابي. وتجاوز فيبر ايضا , لأن فيبر ربط بين السلطة والعنف, من حيث أن السلطة الشرعية هي التي تحنكر ممارسة العنف الشرعي. اما فوكو فقد ذهب الى ان السلطة تفشل عندما تمارس العنف, لانها مبنية على استراتيجيات من المراقبة والتحكم وليست بحاجة الى العنف.
ويكتشف فوكو ان عملية الفردنة في الحداثة الاوروبية تأتي من الأعلى, أي من السلطة, لأن من يقع عليه عبئ السلطة ينزع لأن يكون اكثر تفردا. [17]
ويتجاوز فوكو النقد الموجه للنظرية الليبرالية, والعقد الاجتماعي والفرد, باعتبار هذا الاخير ذرة وهمية في التصور الايدولوجي للمجتمع, كما تقول النظرية الماركسية والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. أما فوكو فيقول ان الفرد حقيقة موجودة بالفعل حتى وإن كان من صنع السلطة.

السلطة الانضباطية

ترتبط السلطة الانضباطية بالرأسمالية من حيث انها تؤهل المعاقبين, وتعمل على ان لا تكون مدة العقاب قصيرة بحيث لا تكفي لاعداد المعاقب لمهنة ما, وأن لا تكون ايضا طويلة بحيث لا يخرج المجرم عاملا منتجا. أي ان نظام العقاب يقدم للرأسمالية عمالا منتجين. [18]
ولتوضيح العلاقة بين الاقتصاد والسلطة, ذهب فوكو الى انه مثلما كان هناك تراكم لرأس المال, كان هناك تراكم للافراد. وكما تراكم رأس المال أدى الى اقلاع الاقتصاد في الغرب. فكذلك تراكم الافراد ادى الى اقلاع السياسة السلطوية. ولذلك فالسلطة والاقتصاد مكملتان لبعضهما البعض.[19]
لأن تراكم الناس يتطلب جهاز انتاجي قادر على تنظيمهم واستخدامهم. وفي حركة رأس المال تقوم السلطة الانضباطية بدور البنية التحتية في المجتمع الليبرالي. لأن عملية إنشاء نظام قضائي قائم على مبادئ حقوق الانسان- من حرية ومساواة ونظام برلماني تمثيلي, تزامنت مع نمو وتعميم للأجهزة والآليات الانضباطية. أي اذا اتاح النظام التمثيلي امكانية اختيار مركز السيادة, فالاجهزة الانضباطية قدمت ضمانة لإخضاع القوى والاجسام.
ويدرك فوكو ان «وعد عصر الأنوار ببلوغ الحرّية من خلال العقل، اصبح هو ذاته المهيمن، الذي أخذ باغتصاب أرض الحرية أكثر فأكثر. أي ان عصر التنوير الذي اخترع الحرية هو نفسه من انتج الانضباط. [20] وكأن السلطة لكي تعوض ما اعطته من حريات - حتى لو كانت شكلية- تزيد من اشكال الانضباط.
ولعمل مقاربة بين حقوق العقد الاجتماعي وبين السلطة الانضباطية, يقول فوكو ان الانضباط هو الذي يخلق الرابط بين الافراد. وهذا الرابط المبني على الاكراهات هو الذي يجعل الافراد وحدة واحدة. أي ما يربط الناس ببعضهم البعض ليس التزام طوعي للحفاظ على المجتمع بل الرابط هو السلطة الانضباطية, التي تعمل على تحديد هوية الفرد من خلال الالزامات المختلفة, من قانونية وسياسية وقومية.
ولكن في هذه الحالة الحقوق تتعطل لأنها مبنية على روابط انضباطية. مثلا عقد العمل يعبر شكليا عن الحرية والفردية, ولكن عند التطبيق يتحول الى نظام انضباطي وقمعي.
وينتقد فوكو الجانب السلبي للعقد الاجتماعي عند جاك روسو [21], الذي ارتكز عليه القانون الفرنسي بعد الثورة. لأن المواطن وفقا لهذا العقد لا يقبل فقط السلطة, بل يقبل ايضا القانون والعقاب مرة واحدة والى الابد . واذا حاول ان يسحب اعترافه بهذا القانون يعاقب بإسم المجتمع ككل.
مجتمع القرن 19 لم يظهر, كما يقول فوكو, تبعا لتطبيق اخلام فلاسفة التنوير ومفكري العقد الاجتماعي, بل نتيجة تطبيق آليات سلطوية جديدة. فمن جهة كان هناك حلم بالمجتمع العادل , ومن جهة اخرى كان هناك حلم عسكري بالمجتمع الانضباطي. وهذا الاخير هو الذي تحقق.
فالمجتمع التالي على الثورة لم يكن يضمن الحرية والعدالة, بل الدور المحدد سلفا لكل فرد. وممارسة السياسة لم تكن على اساس العقد الاجتماعي بقدر ما كانت على اساس الضغوطات والاكراهات, ولم يكن مجتمع الحقوق بل مجتمع الواجبات. ولا مجتمع الارادة العامة بل مجتمع الطواعية والخنوع. عندما كان الفلاسفة والقانونيون يبحثون عن نموذح لاعادة بناء الجسم الاجتماعي , كان عسكر وتقنيون يعدون الإجراءات الانضباطية. [22]

من الانضباط الى الامن

يميز فوكو بين ثلاثة مجالات للقوة بوصفها اطر او ميكانيزمات لممارسة السلطة. التي تظهر على مستوى السياسات الصغرى, وهي
  1. السيادة
  2. الانضباط
  3. الامن
السيادة تمارس على اقليم, والانضباط على مجموعة من الافراد, والامن يمارس على السكان من خلال تقنيات يسميها فوكو القوة الحيوية.
ونقد فوكو لليبرالية يتركز في تحليله للانضباط والامن. صحيح ان الانضباط يمارس على مجموعة من الافراد وخصوصا على اجسادهم, عن طريق مؤسسات مثل المدرس والجيش والسجن , الا انه لا يتعامل مع افراد سابق وجودهم على تقنيات الانضباط, بل انهم من صنع هذه التقنيات. والانضباط لا يمارس فقط على الافراد بل ايضا على الوسط او المجال الذي يعيشون فيه. فقبل ان تصنعهم الافراد تضع والقواعد التي سوف يسيرون عليها والعقوبات لمن يتعداها. أي ان السلطة تنتج الافراد لتمارس عليهم فعلها. لأن الفرد هو الموضوع الانسب لتقنيات الانضباط. فوعي الانسان لفرديته ما هو الا اثر للسلطة الانضباطية عليه.
فالسلطة الانضباطية تعمل على فردنة السكان, اي تحويلهم الى افراد, وليست مكونة للجماهير الغير متمايزة- كما كانت تعتقد الاتجاهات النقدية مثل مدرسة فرانكفورت.

ما هو الفرق بين السلطة الانضباطية والامن ؟

ويضع فوكو مبدأ دعه يعمل دعه يمر في اطار تحليله لتطور السلطة منذ القرن ال 18, من الانضباط الى الامن. فما هو الفرق بينهما ؟.
السلطة الانضباطية تضع القواعد والمعايير لتحديد مجال ممارستها ضمن رقعة جغرافية معينة, اما الممارسة السلطوية في اطار الامن, لا تضع قواعد ولا معايير بل تترك الامور تسير حسب اتجاهها الطبيعي حتى تتوازن تلقائيا.
الممارسة الامنية ارتبطت بالعصر الفيزيوقراطي (حكم الطبيعة) , حيث اكتشف ان ندرة السلع والمجاعة هي ظواهر طبيعية لا يمكن تجنبها. وتعاملوا معها من مبدأ أنها ظواهر طبيعية وليس من خلال التدخل الانضباطي في عملية الانتاج وحركة السوق. فلا مانع من ارتفاع الاسعار والمجاعة , لأن الحركة الطبيعية للانتاج والتوزيع تجد توازنا تلقائيا من ذاتها. وهذا هو الاتجاه الجديد لليبرالية في الاقتصاد. أي ان قوانين الاقتصاد هي قوانين طبيعية. ومبدأ دعه يعمل دعه يمر هو احدث تحول من الانضباط الى الامن. وهذا لا يعني انها انتهت الممارسات الانضباطية, بل اصبحت متلازمة مع الممارسات الامنية.
الليبرالية في تحليل فوكو ليست ايدولوجيا, تستخدمها السلطة لتبرر وجودها, بل هي جزء من تقنيات السلطة الامنية, لأن هذه تأخذ في حسابها حرية الافراد, ما يرغبون وما لا يرغبون. فهي لا تضع قيودا مثل السلطة الانضباطية, بل تعمل على الوسط المحيط بالافراد. أي انها تستطيع التأثير على افعالهم بطريقة غير مباشرة. لأنها لا تتحكم بالفعل الفردي بل في البيئة الذي يتم فيها هذا الفعل.
وهنا يبدو ان السلطة تركت الافراد احرارا ولكنها في حقيقة الامر سيطرت مسبقا على افعالهم.
تتعامل معهم على انهم كائنات بشرية ذات دوافع غريزية. وهذه الدوافع تصبح المجال الذي تسيطر عليةالسلطة الامنية. ومن هذه الدوافع الرغبة.
اي السعي نحو المصلحة الشخصية, وهي من اقوى دوافع لطبيعة البشرية. فبدل ان تضع السلطة الامنية القيود على الافراد, تسمح لهم بالسعي لمصالحهم الشخصية, وهذا السعي هو ما تستخدمه السلطة الامنية في ادارة السكان.
فهي لا تتعامل مع افراد لا يمكن التنبؤ بافعالهم, بل مع افراد افعالهم معروفة مسبقا. وهذه المصالح الشخصية تتوجه تلقائيا نجو التوازن.
في هذا السياق الجديد يظهر المبدأ النفعي بوصفه تعامل جديد مع السكان وفقا لتقنيات السلطة الامنية, وليست مجرد فلسفة متفقة مع الطبيعة البشرية. بينما السلطة الانضباطية تقول دائما لا, السلطة الأمنية تقول دائما نعم, لأن الرغبة والمصلحة الشخصية حزء ضروري من ممارسة السلطة الأمنية.

فوكو والليبراليةالجديدة

تتمثل الانتقادات المعتادة لليبرالية في كونها :
  • تفصل بين الاقتصاد والمجتمع , لكونها لا تنتبه للاثار الاجتماعية المترتبة على الاقتصاد
  • تغزو المجتمع عن طريق منطق رأس المال واخلع كل العلاقات الاجتماعية وفقا لتراكم رأس المال.
  • تقضي على الولاات والهويات الاجتماعية
  • تضع ترتيبات اقتصادية وسياسية جديدة يسودها الفوضوية جراء زيادة مرونة الاقتصاد.
ولكن خلافا لذلك فوكو لم ينشغل في نقد الليبرالية من هذه المنطلقات. بل يعاملها باعتبارها جزء من تقنيات السلطة الجديدة, واطلق عليها مصطلح الحوكمة. لأن السياسات الليبرالية تخلق البيئة المناسبة لممارسة عملها. أي في بيئة تتسم بالاتفصال بين الاقتصاد والمجتمع. لا بل انها تعمل على تدعيم هذا الانفصال منذ البداية. ولذلك وبما انها تعمل مع افراد منفصلين عن هوياتهم التقليدية, فهي تقوم اولا بعزلهم ومن ثم تقديم الحلول للظاهرة التي خلقتها هي نفسها. والمتمثلة في زيادة مرونة تكيف الافراد مع النظام الاقتصادي السائد .
فكل هذه الترتيبات الليبرالية الجديدة تعمل على خلق بيئة مناسبة لممارسة سياساتها. اي انها تعمل على خلق الواقع الذي تحكمه (من هنا يأتي مصطلح حوكمة). ولا تعمل على ادراة موضوعات جاهزة وقائمة بالفعل. أي وضع اطار اومجال حيوي تمارس فيه الليبرالية سلطتها الحيوية. حيوية من حيث انها سلطة على كائنات بيولوجية يعيشون في وسط بيئي معين. والفئات من البشر الخارجة عن العقد يسميها فوكو ذوات لاتعاقدية. مثل المنحرف والتلميذ والجندي والعامل. ونظرا لهامشيتهم وابتعادهم عن السلطة بالمعنى الليبرالي, فلي لهم اهمية في الكشف عن حقيقة السلطة. أما فوكو على العكس يبحث عن السلطة في اولئك الافراد.
أي بدلا من ان تكون السلطة التعاقدية الليبرالية وابعادها الحقوقية اساسا في تخليلات فوكو, فهو يضع العلاقات اللاتعاقدية في مركز تحليلاته.

جمل مفتاحية

  • الاخلاق والمعايير في كل مكان وزمان يصنعها من هم على السلطة, فاخلاقهم نبيلة وما سواها رزيلة.
  • اركيولوجيا فوكو حاولت توضيح دور الحداثة في وضع الانسان محل الله وسلطة ميتافيزيقيا العلم محل ميتافيزيقيا الدين, وحاولت توجيه الجهد نحو المناهج التي تأسست عليها خطابات الحداثة وليس على الخطابات نفسها.
  • إن ما نظهره ونعلنه أقل أهمية مما نحجبه ويتخفي وراء المعلن ولكنه يقول نفسه دون أن يقال
](link)
  • في تعريف السلطة يختلف فوكو عن ماركس بأنها تأتي من الاسفل وليست ظاهرة فوقية.
  • Nell’impostazione del corso Foucault definisce come “biopotere” «l’insieme dei meccanismi grazie ai quali i tratti biologici che caratterizzano la specie umana diventano oggetto di una politica, di una strategia politica, di una strategia generale di potere» [23]
  • كان التاريخ في ثوبه التقليدي يجعل من النصب والاثريات , ذاكرة, ويحثها على الكلام لتصبح وثائق, اما اليوم فالتاريخ يحول الوثائق الى نصب اثرية. [24]
  • ميشيل فوكو اتخذ البانوبتكون كنموذج وشكل للسلطة في المجتمع المعاصر. لأن بنية ال panopticon تحاكي شكل السلطة التي لم تعد تهبط على المجتمع من الأعلى، ولكنها تخترقه من الداخل بواسطة سلسلة من علاقات قوى متعددة. التي تراقِب بشكل خفي ولا تراقَب. [25]
  • ينتقد فوكو مفهوم الحق اليبرالي للسلطة , التي يسميها فوكو سلطة السيادة والقانون. التي تفرض القانون من الاعلى وبالاعتماد على العقد. وهنا ينبغي التشكيك بمبدأ الحق الذي هو نفسه شكل من اشكال السلطة, وأن السلطة تمارس فعلها على مبدأ الحق. في العهد الملكي، كان القانون المطلق او الدستوري, الطريقة التي من خلالها قدمت السلطة نفسها لتصبح مقبولة، او الطريقة التي أمرت بها السلطة التفكير بها: شرعية السلطة السيادية ولدت من موافقة الأفراد الذين وجودهم سابق عليها، وبالتالي فلهم الحق، من الحد الأدنى وهو الحفاظ على الحياة إلى الحد الأقصى وهو المشاركة في الحكومة.
  • لا يولد القانون من الطبيعة ولا عند المنابع الاولى, وانما من خضم المعارك والانتصارات والمجازر, من المدن المدمرة والاراضي المحترقة, من الابرياء المحتضرون عند مطلع النهار . [26]
  • فما هو مبدأ التاريخ ؟. جملة من الوقائع الخام ... وهزائم وانتصارات ...واخيرا شبكة من العناصر السكولوجية والاخلاقية شجاعة خوف, ... . واذا ما يراد اقامة شيء مصطنع فوق هذه اللحمة الدائمة فهي عقلانية الحسايات والاستراتيجيات والحيل ... وكلما صعدنا في سلم القوى كلما اصبحت اكثر تجريدا واكثر ارتباطا بالخباثة والوهم ..... . لدينا اذن من جهة العقل في صف الخرافة والوهم والحيلة والخبث والاشرار, ومن جهة اخرى لدينا هذه الخشونة او الفظاظة الاولية... . اذن الحقيقة ستكون في صف اللاعقل او الجنون. [27]

مصادر وحواشي

  • معظم ما ورد في هذا المقال هو تلخيص شخصي لمقالة الدكتور اشرف منصور: "نقد فوكو للنظرية الليبرالية في السلطة"
  1. ^ د.اشرف منصور/ السلطة على الطبيعة والحقيقة: تحليل فوكو لعناصر الحوكمة في عصر الدولة الليبراليّة الجديدة
  2. ^ professor Umberto Curi/ MICHEL FOUCAULT e Il Potere
  3. ^ نقد فوكو للنظرية الليبرالية في السلطة/د. اشرف منصور/جامعة الإسكندرية
  4. ^ الحق حسب التعريف الحديث : الحق ميزة يمنحها القانون لشخص ما ويحميها بوسائل قانونية
  5. ^ أنها تعبر الى فكرة عامة عن كيفية التعرف على شيء محدد وليس على شيئا آخر." وهذا يشمل كيف يتميز الفرد كشخص بالنسبة للعناصر الأخرى في العالم، وكيف يتميز الشخص بالنسبة للأشخاص الآخرين.
  6. ^ فوكو/ يجب الدفاع عن المجتمع/ ص.66
  7. ^ Foucault Michel. Sicurezza, territorio, popolazione. Corso al Collège de France (1977-1978). traduttore: Napoli P.
  8. ^ درس 21 كانون الثاني / جانفي 1967/ ميشيل فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع. دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس لسنة 1976/ نظرية السيادة وعوامل الهيمنة- الحرب بوصفها اداة لتحليل علاقات السلطة- البنية الثنائية للمجتمع- الخطاب التاريخي- السياسي وخطاب الحرب الدائمة- الجدل وعلاماته- خطاب صراع الاعراق واشكال تدوينه
  9. ^ Sicurezza, territorio, popolazione. Corso al Collège de France (1977-1978), Di Michel Foucault, tradotto da P. Napoli,
  10. ^ توماس هوبز يعد من أكبر فلاسفة القرن 17 بإنجلترا وخصوصا في المجال القانوني , ساهم بشكل كبير في تأسيس الكثير من مفاهيم النظرية السياسية وعلى رأسها مفهوم العقد الاجتماعي
  11. ^ ماكس فيبر (1920-1864) كان عالم ألماني في الاقتصاد والسياسة، وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة، وهو من أتى بتعريف البيروقراطية، وفي عمله الشهير أيضا "السياسة كمهنة" عرف الدولة: بأنها الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة الطبيعية.
  12. ^ يقول هوبز "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان". فالإنسان، في اعتقاده، أناني بطبعه، ... . إنها إذن "حرب الكل ضد الكل" ... . لكن ما دام "لن يتمكن أحد مهما بلغ من القوة والحكمة أن يبلغ حدود الحياة التي تسمح بها الطبيعة" ؛ فيترتب عن ذلك تأسيس قانون يقوم على الحق الطبيعي في الحياة والدفاع عن النفس. وهو قانون يتنازل بموجبه الأفراد عن حقهم الطبيعي في الصراع من أجل حق طبيعي أسمى هو "حب البقاء" ؛ فيضعون السلطة في يد شخص واحد مستبد.
  13. ^ ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة. ولادة السجن. ترجمة على مقلد. مركز الإنماء القومي، بيروت 1990، ص. 65
  14. ^ "بحثان حول الفرد والسلطة" , أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية. 1989
  15. ^ فوكو: المراقبة والمعاقبة. ص 65-66.
  16. ^ فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع
  17. ^ فوكو: المراقبة والمعاقبة، ص 204
  18. ^ فوكو: المراقبة والمعاقبة، ص 143
  19. ^ المرجع السابق: ص 225
  20. ^ المرجع السابق: ص 226
  21. ^ جاك روسو كاتب وفيلسوف سويسري، يعد من أهم كتاب عصر العقل (من أواخر القرن 17 إلى أواخر القرن 18 ). فلسفة روسو ساعدت في تشكيل الأحداث السياسية، التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية
  22. ^ فوكو: المراقبة والمعاقبة، ص 181
  23. ^ (M. Foucault, Sicurezza, territorio, popolazione. Corso al Collège de France (1977-1978) , cit., p. 13)
  24. ^ حفريات المعرفة/ فوكو
  25. ^ Michel Foucault, Sorvegliare e punire: la nascita della prigione, traduzione di Alcesti Tarchetti, Einaudi Paperbacks. 1976.
  26. ^ فوكو / يجب الدفاع عن المجتمع / ص.71
  27. ^ فوكو / يجب الدفاع عن المجتمع / ص.74